فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القِلادة كانت لأسماء؛ خلافُ حديث مالك.
وذكر النَّسائِيّ من رواية علي بن مُسْهِر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قِلادةً لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصُّلْصُل؛ وذكر الحديث.
ففي هذه الرواية عن هشام أن القِلادة كانت لأسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء.
وهذا بيان لحديث مالك إذ قال: انقطع عِقد لعائشة، ولحديث البخاريّ إذ قال: هلكت قِلادة لأسماء.
وفيه أن المكان يقال له الصلصل.
وأخرجه الترمذي حدّثنا الحُمَيْدِيّ حدّثنا سفيان حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سقطت قِلادتُها ليلة الأَبْواء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها؛ وذكر الحديث.
ففي هذه الرواية عن هشام أيضًا إضافة القِلادة إليها، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النَّسائي.
وقال في المكان: الأبواء كما قال مالك، إلا أنه من غير شك.
وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العِقد تحته.
وجاء في البخاريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده.
وهذا كله صحيح المعنى، وليس اختلاف النَّقلة في العِقد والقِلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يُوهِن شيئًا منه؛ لأن المعنى المرادَ من الحديث والمقصودَ به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت الروايات في أمر القِلادة.
وأما قوله في حديث التّرمذِيّ: فأرسل رجلين قيل: أحدهما أسَيد بن حُضير.
ولعلهما المراد بالرّجال في حديث البخاريّ فعبّر عنهما بلفظ الجمع، إذ أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ، والله أعلم.
فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئًا في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته.
وقد رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جِراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وهذا أيضًا ليس بخلاف لِمَا ذكرنا؛ فإنهم ربما أصابتهم الجِراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكَوْا، وضاع العِقد ونزلت الآية.
وقد قيل: إن ضياع العِقد كان في غَزاة بني المُصْطَلِق.
وهذا أيضًا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المُرَيْسِيع، إذ هي غزاة واحدة؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزا بني المُصْطَلِق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، على ما قاله خليفة بن خَيّاط وأبو عمر بن عبد البر، واستعمل على المدينة أبا ذَرٍّ الغِفارِي.
وقيل: بل نُمَيلة بن عبد الله اللّيثي.
وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المُصْطَلِق وهم غارّون، وهم على ماء يقال له المُرَيْسِيع من ناحية قُدَيدٍ مما يلي الساحل، فقتَلَ مَن قتل وسَبَى من سبى النساءَ والذّرية وكان شعارهم يومئذ: أمِتْ أمِتْ.
وقد قيل: إن بني المُصْطَلِق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقِيهم على ماء.
فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه.
وقد قيل: إن آية المائدة آيةُ التيمم، على ما يأتي بيانه هناك.
قال أبو عمر: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة المائدة، أو الآية التي في سورة النساء.
ليس التيمم مذكورًا في غير هاتين الآيتين وهما مَدَنِيّتَان. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أصنافًا أربعة: المرضى، والمسافرين، والذين جاؤا من الغائط، والذين لامسوا النساء.
فالقسمان الأولان: يلجئان إلى التيمم، وهما المرض والسفر.
والقسمان الأخيران: يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء، وبالتيمم عند عدم الماء، ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام:
أما السبب الأول: هو المرض، فاعلم أنه على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات، كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة، وثانيها، أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة.
وثالثها: أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة.
لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن، فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين، وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء، بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء، بدليل أنه قال في آخر الآية: {فلم تجدوا ماء} وإذا كان هذا الشرط معتبرًا في جواز التيمم، فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم، وهو إيضًا قول ابن عباس.
وكان يقول: لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك.
ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده، ثم قد دلت السنة على جوازه، ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال، فلما اغتسل مات، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قتلوه قتلهم الله، فدل ذلك على جواز ما ذكرناه.
السبب الثاني: السفر، والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء، تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية.
السبب الثالث: قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان.
وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطًا من الأرض يحجبه عن أعين الناس، ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مرضى} المرض عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ.
وهو على ضربين: كثير ويسير؛ فإذا كان كثيرًا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع؛ إلا ما رُوي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات.
وهذا مردود بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ}.
وروى الدّارَقُطْنِيّ عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ} قال: إذا كانت بالرجل الجِراحة في سبيل الله أو القروح أو الجُدَرِيّ فيَجْنَب فيخاف أن يموت إن اغتسل، تَيمَّم.
وعن سعيد بن جُبير أيضًا عن ابن عباس قال: رُخِّص للمريض في التيمم بالصَّعيد.
وتيمّم عمرو بن العاص لما خاف أن يَهلِك من شدّة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسلٍ ولا إعادة.
فإن كان يسيرًا إلاَّ أنه يخاف معه حدوثَ علة أو زيادَتها أو بطء بُرْءٍ فهؤلاء يتيمّمون بإجماع من المذهب.
قال ابن عطية: فيما حفظت.
قلت: قد ذكر الباجِيّ فيه خلافًا؛ قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نَزْلَةً أو حُمّى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة.
وقال الشافعيّ: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك.
قال ابن العربيّ: قال الشافعيّ لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف؛ لأن زيادة المرض غير متحققة؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك.
قلنا: قد ناقضت؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور.
قال: وعجبًا للشافعيّ يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه.
قلت: الصحيح من قول الشافعيّ فيما قال القشيرِيّ أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء. فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعيّ: جواز التيمم.
روى أبو داود والدّارَقُطْنِيّ عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جُبير عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذاتِ السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلِك؛ فتيممت ثم صلّيتُ بأصحابي الصبح؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو: «صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمِعت الله عز وجل يقول: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا».
فدلّ هذا الحديثُ على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضِّئين؛ وهذا أحد القولين عندنا؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطَّئه وقرئ عليه إلى أن مات.
والقول الثاني أنه لا يصلي؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضىء، وحُكم الإمام أن يكون أعلى رتبة؛ وقد روى الدّارَقُطْنِيّ من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمّ المتيمم المتوضئين» إسناده ضعيف.
وروى أبو داود والدّارقُطْنِيّ عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر فشجّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدِمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبِر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويَعْصِر أو يَعصِب شكّ موسى على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» قال الدّارَقُطْنِيّ: قال أبو بكر هذه سنة تفرّد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروِه عن عطاء عن جابر غير الزّبير بن خُرَيق، وليس بالقويّ، وخالفه الأُوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب.
واختلف عن الأُوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الأُوزاعيّ آخره عن عطاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو الصواب.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زُرْعة عنه فقالا: رواه ابن أبي العشرين عن الأُوزاعيّ عن إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس، وأسند الحديث.
وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى}.
قال ابن عطية: وهذا قول خلْف، وإنما هو عند علماء الأُمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذّيه به كالمجدور والمحصوب، والعلل المَخُوف عليها من الماء؛ كما تقدّم عن ابن عباس.
قوله تعالى: {أَوْ على سَفَرٍ} يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء.
وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة.
واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة.
وهذا كله ضعيف. والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير.